"رحلة إلى جهنم"
قصة واقعية من عمليات الصاعقة المصرية
خلف خطوط العدو في أكتوبر 1973
حائزة على جائزة الدولة التقديرية عام 1985م
بقلم لواء متقاعد : نبيل أبو النجا
تدور أحداث القصة حول عملية انتحارية حقيقية لها ملف في إدارة المخابرات الحربية باسم (المهمة المستحيلة-قافلة الجمال الإنتحارية) وتتكون هذه الدورية من خمسة أفراد, ثلاثة رجال نوبيين من الهجانة"حرس الحدود" ومندوب بدوي من المخابرات الحربية من قبائل الترابين بسيناء وضابط صاعقة برتبة نقيب وقافلة من الجمال المخصصة للإمداد بالمؤن والذخيرة قوامها 50 جمل.
لضمان نجاح عملية عبور الجيش الثالث الميداني لقناة السويس واقتحام خط بارليف في بداية العبور ظهر السبت السادس من أكتوبر في تمام الساعة الثانية ظهرا, كان لزاما على القيادة العامة للقوات المسلحة أن تمنع مدرعات ودبابات العدو وأسلحته الثقيلة الموجودة في عمق سيناء خلف المضايق من التدخل في المراحل الأولى للعبور خاصة أن الوحدات المصرية التي ستعبر في بداية العبور عبارة عن عناصر من الصاعقة والمشاه بالقوارب المطاطية والأسلحة الخفيفة فقط لأن الكباري التي ستعبر عليها دباباتنا وأسلحتنا الثقيلة لشرق القناة في سيناء سوف يستغرق إنشاؤها من 6-8 ساعات منذ بدء العبور في الثانية ظهر السبت السادس من أكتوبر العاشر من رمضان.
ولكى ينجح العبور لا بد من منع جحافل دبابات العدو ومدرعاته الموجودة في عمق سيناء خلف المضايق من التدخل في المراحل الأولى للعبور بأي ثمن لإتاحة الفرصة لقواتنا الخفيفة التي عبرت لشرق القناة في سيناء من التمسك بأمتار قليلة في الشرق لحين بناء الكباري وتشييد الجسور التي ستعبر عليها مدرعاتنا ودباباتنا وأسلحتنا الثقيلة, ولا قدر الله لو نجح العدو في دفع دباباته من المضايق في اتجاه القناة لفشل العبور وخسرنا المعركة, إذا هى معركة حياة أو موت.
قررت القيادة العامة للقوات المسلحة دفع كتيبة صاعقة بالطائرات الهليوكبتر الساعة الرابعة عصرا لإنزالها خلف الخطوط لمسافة 70-80كم في عمق العدو في منطقة مضيق رأس سدر بالقرب من خط المضايق في صدر الحيطان لعمل كمائن لدبابات العدو التي ستتقدم عقب عبور قواتنا وتندفع شرقا من خلال المضيق إلى منطقة عيون موسى لتدمير قوات المشاة التي عبرت القناةوليس معها إلا أسلحة خفيفة.
بمجرد قيام الطائرات الهيلوكبتر (20 طائرة) بالإقلاع من جبل عتاقة جنوب السويس هاجمتها الطائرات الإسرائيلية بشراسة وأوقعت بها خسائر فادحة وتعقدت المهمة ولم تتضح الصورة نظرا لكثافة الهجوم والإعاقة الإلكترونية الشاملة على وسائل الإتصال وهل نجحت طائراتنا الهليوكبتر في عبور الخليج والوصول للعمق كما هو محدد أم لا فهناك طائرات دمرت قبيل الإقلاع في جبل عتاقة وطائرات بمجرد إقلاعها وأخرى في الخليج لكن لم تحاول طائرة هليوكبتر واحدة العودة بل استمرت جميعها في اتجاه سيناء الحبيبة ومعظمها مشتعل.
نظرا لعدم وضوح الموقف قررت القيادة العامة للقوات المسلحة دفع النقيب نبيل أبو النجا بطائرتين هليوكبتر من فوق فندق العين السخنة بالقرب من جبل الجلالة الساعة السادسة والنصف في آخر ضوء للوصول إلى موقع الكمين على مسافة 80كم في العمق والإبلاغ عن الموقف وهل وصلت عناصر من الكتيبة لموقع الكمين المحدد أم لا, ولكن بمجرد إقلاع الطائرتين أسقطتهما طائرتي فانتوم وسقط الرجال في الخليج على مسافة 500مترا والتقطهم قارب من حرس السواحل.
قررت القيادة العامة تكرار المحاولة من جنوب السويس بالقرب من ميناء الأدبية في تمام الساعة الثامنة والنصف لكن الدفاع الجوي المصري أسقط الطائرتين نظرا للإشتباكات الضارية المستمرة وهذا وارد في الحروب وفشلت المحاولة الثانية للإمداد.
قررت القيادة دفع النقيب نبيل أبو النجا بعشرة قوارب سريعة نفاثة من مرفأ صيد صغير شمال ميناء الأدبية جنوب السويس وكل قارب به عشرة مقاتلين ومؤن وذخيرة وألغام وذلك في تمام الساعة الرابعة والنصف فجر الأحد 7 أكتوبر وأثناء التجهيز قامت مجموعة لنشات صواريخ اسرائيلية بتدمير المنطقة بأكملها وتكبدنا خسائر فادحة وفشلت المحاولة الثالثة في تحقيق الإتصال.
أصرت القيادة العامة للقوات المسلحة على المضي قدما في المحاولات مهما كان الثمن لأن نجاح العبور بأكمله مرتبط بنجاح هذه المهمة فقررت دفع النقيب نبيل أبو النجا بعشرة مدرعات برمائية الساعة الثامنة صباح الأحد السابع من أكتوبر من منطقة الشط شمال السويس حيث لم تتمكن قواتنا حتى هذه اللحظة من إنشاء كوبري العبور الثقيل وكلما يوشك على الإنتهاء يتم تدميره حيث ركز العدو كل جهوده على هذه المنطقة لأن نجاح إنشاء الكوبري يعني نجاح تدفق دباباتنا ومدفعياتنا وصواريخنا للشرق في سيناء, تقدم النقيب أبو النجا في أول مدرعة برمائية وعبر للشرق وتم فتح ثغرة في الساتر الترابي لعبور المدرعة إلا أن الجنزير انزلق في الطين والمياه وهوت المركبة في القناة وقفز الطاقم منها ولكن المركبة التالية لها لم تكن افضل حظا حيث أصيبت بصاروخ معاد مباشر وكذلك التي تليها أما الباقين غرب القناة فقد دمرتهم الطائرات الإسرائيلية وفشلت المحاولة الرابعة للإمداد وتحقيق الإتصال.
قررت القيادة العامة دفع سرب طائرات شراعية تقطرها طائرة مروحية وتتركها لاتجاه الريح شرق الخليج حيث تتساقط وبها مؤن وذخائر عسى أن تجد أحياء على أرض سيناء في الشرق من كتيبة الصاعقة التي كانت تحاول الوصول للمضيق أمس السبت وأصيبت طائراتها الهليوكبتر, لكن الطائرات الشراعية والطائرة المروحية تعرضوا لهجوم جوي كثيف من طائرات الميراج الإسرائيلية ودمرتها عن آخرها وكان ذلك قبيل عبورها الشاطئ الغربي للخليج شمال العين السخنة وفشلت المحاولة الخامسة للإمداد وتحقيق الاتصال لكن القيادة العامة مصممة على الاستمرار حتى النهاية دون يأس ومهما كانت التضحيات.
قررت قيادة وحدات الصاعقة قيام النقيب نبيل أبو النجا ومعه دورية انتحارية مكونة من ثلاثة رجال من الهجانة "حرس الحدود" وهم من رجال النوبة الأشداء ومندوب بدوي من المخابرات الحربية من قبائل الترابين بسيناء الحبيبة وقافلة جمال تحمل المؤن والذخيرة والعتاد بعبور قناة السويس من شمال السويس من منطقة الشط وأخذ تلقين من مكتب مخابرات السويس يتضمن كيفية الوصول للمضيق على مسافة 80 كم خلف الخطوط وعبور القناة بأية وسيلة متاحة يوم الإثنين الموافق 8أكتوبر ثم التقدم من خلال قواتنا ثم التقدم خلال قوات العدو حتى مضيق رأس سدر؟ّ!!! وتوصيل المؤن والذخيرة لقوات الصاعقة التي ربما تكون أحد عناصرها قد نجحت في الوصول للمضيق علما بأن تلك العناصر كانت تحمل تعيين قتال لمدة يوم واحد فقط.
من هنا بتدأ الرحلة إلى جهنم وهى المحاولة السادسة للإمداد وتحقيق الاتصال حيث كانت عملية خيالية بعد فشل الهليوكبتر مرتين والقوارب السريعة مرة والمركبات المدرعة مرة أخرى ثم الطيران الشراعي مرة خامسة وأخيرا كتب الله تعالى النجاح للدورية الانتحارية في عبور القناة والتقدم وسط قواتنا حتى الحد الأمامي في عيون موسى ثم التسلل داخل مواقع العدو لمسافة 80كم حتى المضيق إلى أن وصلت بالرجال الخمسة وأربعة جمال من خمسين جملا وصادفت أهوال ومصاعب لا يصدقها عقل ولا خيال وهى مذكورة بالتفصيل في كتاب رحلة إلى جهنم (دار أطلس للنشر- 25 وادي النيل – المهندسين).
وصلت القافلة الإنتحارية للمضيق وأمدت عناصر الصاعقة المحدودة التي نجحت في الوصول بالهليوكبتر للمضيق وعادت القافلة من طريق جبلي وعر للغاية وسقط أحد الرجال من إحدى القمم وكسر الحوض والقدمين وحمله الرجال الأربعة ولكن شاء القدر أن يتعرض آخر ليلا للدغة ثعبان سام وأصبح بين الحياة والموت وتورمت قدمه وساءت حالته فحمل الرجال الثلاثة الباقين الرجلين لمسافة تعدت المئة كيلومتر في مناطق جبلية شاقة لكن الله تعالى كتب للدورية النجاح وعادت سالمة لأرض الوطن بعد أداء المهمة وحصل الرجال على وسام النجمة العسكرية تقديرا لما أبدوه من شجاعة في مواجهة العدو في ميدان القتال.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق